الطاهر وطار والشمعة التي تحولت إلى منارة

Wattar et la Bougie Qui Devient Minaret

 

أشعل الطاهر وطار والأحد عشر مثقفا الذين أسسوا الجاحظية معه شمعة بدأ ضوؤها يشق ظلمات الجهل والتخلف والتطرف الديني والعنصري والإرهاب والكره ذي الوجوه المتعددة. ورغم الرياح العاصفة التي تعرضت لها، لم تنطفئ هذه الشمعة بل تحولت شيئا فشيئا إلى منارة مبهرة عم ضوؤها الجزائر وانتشر إلى المغرب العربي ثم وصل إلى المشرق بجائزتي الهاشمي سعيداني للرواية الجزائرية ومفدي زكريا للشعر العربي.

لم أكن صديقا حميما للطاهر وطار، ولا قريبا له، أو من أبناء منطقته، ولم تكن إيديولوجيتنا واحدة. ولم أنتسب إلى الجاحظية التي ارتبط اسمها باسمه، ولم تتعد معرفتي به العلاقة الأدبية المحضة التي أدت بي إلى احترامه ثم إلى حبه. شهادتي إذا له وللجاحظية هي شهادة نزيهة في حق الرجل والجمعية التي عرفت به وعرف بها منذ تأسيسها عام 1989. هي شهادة حق لا تشوبها أو تطعن في صدقيتها عوامل الصداقة أو القرابة أو الجهوية أو الحزبية.

لن أتحدث عن وطار رائد الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية وعن أعماله الأدبية المتعددة، وأترك ذلك للنقاد المتخصصين. سأكتفي بالحديث عن وطار رئيس جمعية الجاحظية وعن تسييره لها خلال هذه السنوات.

تعلمت من خبرتي في التعليم والإدارة والتفتيش أن المؤسسات في الدول النامية لا تسير بقوة الدفع الذاتي بل لا بد لها من محرك هو رأس المؤسسة. دور الفرد إذا جوهري وأساسي في مؤسساتنا العامة والخاصة، وأي مؤسسة سواء أكانت مدرسة أم مستشفى أم وزارة يقف وراءها فرد هو سبب نجاحها أو فشلها. وهذا لا ينتقص من دور العاملين فيها، فالإنسان لا ينجح وحده، ولو أنه يفشل وحده. يزداد نشاط الأفراد العاملين وإنتاجهم حين يجدون مديرا نشيطا ونزيها يقدر الكفاءات، ويعدل بينهم، ويعاملهم كأنه واحد منهم بينما يتناقص نشاطهم ويصابون بالإحباط، وتتثبط عزائمهم إن ابتلوا بمدير كسول يترفع عليهم، ويتعامل معهم على أساس الجهوية والمحسوبية.

كان الطاهر وطار إذاً ذلك المدير النشيط دائم الحضور، لا يتغيب إلا لسبب قاهر. كان يعلم أن إدارة الناس فن فتجده متواضعا مع العاملين معه في غير ضعف، جادا وحازما في غير قسوة.

كان سر نجاحه إلى جانب حضوره وإدارته اللينة الحازمة توزيعه الأعمال والمسؤوليات، إذ كان لا يعمل وحده ولا يستأثر بالمهام بل يوزعها على المشاركين معه في الجمعية. هناك إذا لجنة لإعداد الأنشطة الثقافية ولجنة لجائزة مفدي زكريا ولجنة لجائزة الهاشمي سعيداني. وأما مجلة التبيين فنجد أن لها مديرا للتحرير ورئيسا للتحرير وهيئة مرجعية من الباحثين والأدباء. ولو استأثر الطاهر بكل هذه الأعمال لفشلت الجمعية.

والسر الآخر في نجاح الجمعية هو التمويل، فليست هناك مؤسسة وطنية أو دولية تمول جمعية أدبية لا برنامج لها أو لم تثبت نجاحها. وقد عانت الجاحظية في البداية من مشكلة التمويل، واستطاع رئيسها بإبراز جهد الجمعية وأنشطتها ومصداقيته ومصداقيتها أن يؤمن بعض مصادر التمويل لها. وكان حريصا على أن يكون التسيير المالي للمؤسسة شفافا وبعيدا عن كل شبهة، فكان المسيرون الماليون الذين تعاقبوا على المؤسسة من أنزه الناس وأعفهم. كان شديد الحرص على مال الجاحظية فلا ينفق سنتيما إلا في محله، ليس لأنه بخيل، ولو كان كذلك لما موّل جائزة الهاشمي سعيداني من ماله الخاص لا من مال الجمعية. نجحت الجاحظية إذاً بحسن التدبير وعدم التبذير حيث فشلت المؤسسات الثقافية الأخرى بسوء التدبير والمبالغة في التبذير، إذ ينفق رئيسها أو مديرها على نفسه وعلى رفاهيته أكثر مما ينفق على المؤسسة ويبدد ميزانيتها شذر مذر.

هذا سر نجاح الجمعية الإداري والمالي أما سر نجاحها الثقافي فكونها تحتضن كافة الكتاب والمثقفين دون حظر أو إقصاء. أبعد وطار ـ ومن معه ـ الجاحظية عن الصراعات العقائدية والجهوية والشللية التي عصفت ببعض المنظمات الثقافية فكانت سببا في انهيارها وتلاشيها. وجعلوا منها منبرا للتنافس الفكري الحر تحت شعار "لا إكراه في الرأي" حيث تتفاعل الأفكار وتتلاقح دون أن يلغي أحدها الآخر، حتى أضحت بوتقة تنصهر فيها الجهوية والشللية، وحديقة غناء يزدهر فيها الفكر والأدب والفن في جو من الحرية والتسامح.

ورغم أن  المسؤولية الإدارية لأي أديب تمنعه من التفرغ لأدبه وتعيقه عن الإبداع، إلا أن بعض المبدعين يختارون الإدارة والوزارة والسفارة لما فيها من جاه ومنصب ورواتب مغرية، وما في الإبداع في مجتمعنا من شقاء وحرمان وتعتيم ومحاربة على كافة الأصعدة. لكن الطاهر وطار اختار المسؤولية الإدارية لجمعية أدبية ليس فيها جاه ولا منصب ولا راتب مغر. اختار وطار المركب الصعب لأنه كان يعلم أن الكتاب والأدباء بحاجة إلى هذا المنبر ليسمعوا صوتهم وصوت الأدب الجزائري عاليا في واد يحوطه الصمت من كل جانب، فصنع بكفاحه ودفاعه عن الأدب والأدباء للجمعية جاها ينحني له أصحاب الجاه والمناصب، وقوة معنوية يحسب لها ألف حساب، وأسمع صوت الأدباء لمن كان به صمم.

من الخطأ اختزال الرجال في إيديولوجيات محددة بوصفهم يمينيين أو يساريين، شيوعيين أو إسلاميين أو وطنيين أو قوميين، وكأن بين هذه الإيديولوجيات أسوارا عالية وأستارا حديدية تفصل بعضها عن بعض فصلا تاما، وليست بينها قيم عليا مشتركة كحب الوطن والحرية وتوخي العدل وترقية الإنسان. كانت بينه وبين الآخرين جسور فكرية وثقافية تتدعم يوما بعد يوم. وهكذا كان الطاهر وطار شيوعيا، لكنه لم يكن "دُغماتيّاً" يؤمن بأن إيديولوجيته تحتكر الحقيقة، وإلا لما حاضر في الجاحظية وطنيون وقوميون وإسلاميون، ولما عرضوا أفكارهم وآراءهم في منشورات ومجلة "التبيين".

ولعل بعض خصومه يعترض قائلا: "لماذا تريد أن تنزهه عن الأخطاء؟"

وأجيبه: " ليس هناك إنسان معصوم عن الأخطاء. كل عامل لا بد أن يخطئ ويصيب، ومن لا يخطئ هو الذي لا يعمل. وقديما قال الشاعر بشار بن برد:

ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟       كفى المرء نبلا أن تُعد معايبُهْ "

فجزاه الله ـ ومن معه من فرسان الجاحظية ـ خيرا عني وعن الكتاب والأدباء والشعراء الذين فتحت الجمعية صدرها لهم وعرّفت الصحفيين والجمهور بكتبهم وإصداراتهم ونشرت لكثيرين منهم. رحم الله الطاهر وطار وأسكنه فسيح جنانه، ووفق الجاحظية للاستمرار في رسالتها التثقيفية والتنويرية.

عبد الله خمّار

www.khammar-abdellah.art.dz

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر هذا المقال في العدد 2522 من جريدة "الأحداث" يوم السبت 21 أوت 2010 الموافق لـ 11 رمضان 1431